في دُوار المباركيين بُوجُودة، الواقع في منطقة البراشوة بتراب زعير، أنشئ مشروع فتيّ قبل نحو ثلاث سنوات جعل الدوار يتحوّل إلى قبلة لآلاف السياح، المغاربة والأجانب، وأضحى موردَ رزقٍ لأفراد عشرات الأسر القاطنة بالدوار، خاصة النساء اللواتي أضحيْن يحصُلْن على مقابل مادّي لقاءَ عملهم، بعدما كنّ، في الماضي، يَشقيْن دون نيْل أي مقابل.
يتعلّق الأمر بتعاونية للسياحة التضامنية والقروية، زُرعت نواتها الأولى في الدوار بعد عودة أحد شبابه من دورة تكوينية في مجال الفلاحة المستدامة « Permacultur » بمدينة مراكش، على يدِ مكوّنين أجانب، ناقلا عُصارة ما استفاد منه إلى سكّان الدوار، ومن ثمَّ أنشئ مشروع السياحة التضامنية والقروية بمنطقة البراشوة.
سياحة بدون « بروتوكول »
في « حوش » بيْت عائلة الشعوبي يوجد مَرْج صغير به خُضر وفواكهُ وأعشابٌ عطرية من مختلف الأنواع. في باقي بيوت الدوار توجد مثل هذه المُروج، وتختلف مساحتها من بيت إلى بيْت، لكنّ القاسم المشترك بينها هو أنّ المزروعات النابتة في تربتها لا يتمّ تطعيمها بأي نوع من الأسمدة أو المواد الكيماوية، أيْ إنها مُنتجَات « BIO ».
يقول محمد الشعوبي، عضو في جمعية الفلاح المعاصر للسياحة الإيكولوجية بمنطقة البراشوة، الذي نَقل تجربة التكوين الذي استفاد منه في مجال الزراعة المستدامة إلى سكان دوار المباركيين، إنّ الهدف الأوّل من خلق تعاونية السياحة القروية والتضامنية بالبراشوة هو تنمية المنطقة، والحفاظ على بيْئتها وحمايتها، وتوفير الشغل لساكنتها.
بعد إنشاء هذه التعاونية أصبحتْ نساء دوار المباركيين مساهِمات في إعالة أسَرهنّ، من خلال المال الذي يجنينه مقابلَ اشتغالهنّ في التعاونية، وأضحى كل بيْت من بيوت الدوار يتوفّر على موردٍ مالي، يتأتّى من خلال استقبال السياح الذين يفِدون على بيوتهم، والذين وصل عددهم، خلال أقل من ثلاث سنوات، إلى حواليْ خمسة آلاف سائح.
لا يتوفر دوار المباركيين على أيّ فندق، ولا حتى على مقهى، لكنَّ سكانه ابتكروا فكرة رائدة، لاستقبال السياح، المغاربة والأجانب، إذْ يوجد في كل بيْت من بيوت الدوار مأوى « Auberge » صغيرا، أو على الأقل غرفة، مخصّصة للسياح الذين يأتون من أجل السياحة الجبلية، أو لتذوّق مذاق الخضر والفواكه الـ »Bio »، ومنهم من يأتي للاستفادة من تكوين في مجال الزارعة المستدامة.
حينَ زُرنا بيْت عائلة الشعوبي، وجدنا أسرة مغربية ربُّها فرنسي، قادمة من فرنسا، لتعيش بين أحضان جبال زعير، وتتقاسم مع سكان المنطقة ظروف عيشهم، وتستمتع بهدوئها ونقاء بيئتها، بعيدا عن ضوضاء وصخب المدينة وهوائها الملوّث. وبَدا من خلال حديث أفراد الأسرة وقسمات وجوههم المنشرحة أنهم سعداء بخوض هذه التجربة.
« في أقلّ من ثلاث سنوات وفَد علينا زهاء خمسة آلاف سائح »، يقول العربي الشعوبي، رئيس جمعية الفلاح المعاصر للسياحة الإيكولوجية بمنطقة البراشوة، بكثير من الفخْر، لكنَّ الأهمّ بالنسبة إليه ليس هو عدد السياح الوافدين على المنطقة فحسب، بل قُدرة السكان على جعْلهم يعودون لزيارة المنطقة، وزاد موضحا: « أصبح لدينا زبناء دائمون، حيتْ كيلقاو راحتهم هنا، وهادْ المحلّ وْلّا بحال اللي دارهم، حيتْ حْنا مْحيّدين هادشي ديال البروتوكول.. السائح كيْجي بحالّا غادي عند العائلة ديالو ».
تختلفُ المُدد التي يقضيها السياح الوافدون على دوار المباركيين، فهناك من يأتي فقط لتذوّق الأطعمة المحلية المشكّلة من الخضر والفواكه الخالية من الموادّ الكيماوية والدجاج « البلدي »، وزيت الزيتون والعسل الحر، وهناك من يقضي أياما يسيح فيها بين الجبال، وآخرون هامُوا في عشْق المنطقة فقضّوا فيها أسابيع وشهورا.
في شهر غشت الحالي، ستفدُ على دوار المباركيين سائحة بلجيكية قضّت في المنطقة بضعة أسابيع، فأغرمتْ بها، وقرّرت العودة للمكوث بين سكان المنطقة عاما كاملا، ليس بهدف السياحة فقط، بل للمساهمة في تنميتها، من خلال تعليم أطفال المنطقة اللغة الفرنسية، وتعليم النساء أنشطة، منها رياضة اليوغا.
اختلاط السياح الأجانب مع سكان دوار المباركيين، والعيش معهم جنبا إلى جنْب في أجواء من البساطة، بعيدا عن « البروتوكول »، يجعلهم يطّلعون أكثر على عاداتهم وثقافتهم، بل إنّهم ينخرطون، أحيانا، في هذه العادات. يتذكر العربي الشعوبي كيف أنّ أسرة ألمانيَّة قضّت معهم شهر رمضان الماضي، فأعجبَ أفرادها بأجواء شهر الصيام، إلى درجة أنهم صاموا رمضان.
ولَئن كانت بيوت سكان دوار المباركيين تتوفر على غرف خاصة لإيواء السياح، فإنّ صاحبَ البيت لا يمكن أن يستقبلهم إلا إذا كانَ مُستجيبا لشروط دفتر تحمّلات وُضع لهذا الغرض، ومنها أن يكون البيت نظيفا، ويتوفر على حمّام ومرحاض، وأن يكون مَبنيّا بالطين، على اعتبار أنَّ السياحة في هذه المنطقة إيكولوجية، وأنْ يتمّ توفير تغذية جيّدة للسياح..
ولكيْ لا تظلّ الشروط المنصوص عليها في دفتر التحملات الذي وضَعه المنخرطون في التعاونية حبرا على ورق، فإنّ صاحبَ البيت المستقبِل للسياح لا يتلقّى مُستحقاته المالية من طرف المسؤولين عن التعاونية إلا بعد النظر في « التنقيط » الذي يمنحه له السائح، وبناء على هذا التنقيط تُحتسبُ المستحقات؛ فكلما كانت النقطة مرتفعة زادت قيمة المستحقات، والعكس صحيح. « وقد لا يحصل صاحب البيت على أيّ تعويض إذا قدّم خدمة سيّئة للسائح »، يقول الشعوبي.
ضرب عصفوريْن بحجر واحد
إذا كانت علاقة السياح بالأماكن التي يزورونها تنتهي، في الغالب، بعد مغادرتهم لها، ولا يحتفظون منها سوى بالذكريات، فإنّ علاقة السياح بدوار المباركيين تظلّ ممتدّة، خاصة السياح القادمون من مدن قريبة، كالرباط وسلا والقنيطرة، إذْ يطلبون من مسؤولي التعاونية تزويدهم بالخضر والفواكه المزروعة في المنطقة، وغيرها من المواد الغذائية المنتَجة على المستوى المحليّ، كالقطاني، والعسل الحر وزيت الزيتون والزبدة والبيْض والدجاج…
يقول العربي الشعوبي إنّ السياحة الإيكولوجية كانت حلّا لمشكل التسويق الذي واجهتْه التعاونية في البداية، ذلك أنّ السائحَ حينَ يأتي إلى المنطقة، ويطّلع بنفسه على الأماكن التي تُزرع فيها الخضر والفواكه، وكذا شروط إنتاج باقي الموادّ الغذائية، كالكسكس، يقتنع بأنّها فعلا موادُّ طبيعية مئة بالمائة، وخالية من أيّ موادّ كيماوية أو محافظة، ومن ثمّ تتعزّز ثقته في هذه المنتجات.
المنخرطون في التعاونية استطاعوا، من خلال السياحة الإيكولوجية، أن يضربوا عصفوريْن بحجر واحد، ففضلا عما يجنونه من السياحة، يضيفون إلى رصيدهم أرباحا أخرى تتأتّى من خلال المنتجات التي يبيعونها، والتي باتَ نطاق اكتشافها يتوسّع، بفضل تزايُد عدد السياح الوافدين على المنطقة، سواء من داخل المغرب أو من الخارج.
مُنتجات تعاونية السياحة التضامنية والقروية بمنطقة البراشوة لا تُباع فقط لسياح المنطقة، بلْ تُسوّق أيضا في المتاجر والأسواق في المدن الكبرى، ومنها سوق المنتجات المحلية الذي دشّنه الملك قبل أيام في مدينة الدار البيضاء، وسوق الإدماج التابع لمؤسسة محمد الخامس للتضامن، وهو ما وفّر دخلا مهمّا، خاصّة لنساء المنطقة.
« شحال هادي العيالات ما كانوا كيصوّرو والو، واخا المْرا فالبادية ديما خدامة، وملّي دْرنا التعاونية أطَّرنا عملهن، وهذا التأطير أصبح يعطي ثمارا، إذ أصبح لنساء المنطقة دخْلٌ قار، يوفّر لهنّ مجموعة من متطلبات الحياة، فيساهمن في إعالة أسرهنّ، ويُساعدْن أبناءهن على إتمام دراستهم. ومن نتائج ذلك محاربة الهدر المدرسي في المنطقة، خاصة في صفوف الفتيات، كما ساهم في استقلالية المرأة »، يقول العربي الشعوبي.
منذ تأسيس تعاونية السياحة التضامنية والقروية بمنطقة البراشوة أضحى دوار المباركيين معروفا، إذ حلّت بهذه التعاونية قنوات تلفزيونية من إيطاليا وبريطانيا وفرنسا، لاكتشاف هذه التجربة الفريدة التي مكّنت سكّان المنطقة من توفير مورد دخْل خاص، اعتمادا على أنفسهم، ودون أيّ مساعدة من الدولة، كما مكّنتهم من توفير الاكتفاء الذاتي من الخضر والفواكه وموادّ غذائية أخرى.
يشير محمد الشعوبي، عضو جمعية الفلاح المعاصر، إلى حبّة يقطين ضخمة، قائلا، جوابا على سؤال حول نسبة نجاح التجربة: « تجربتنا ناجحة بنسبة خمسة وتسعين في المائة. لقد وضعنا في حسباننا أن من الصعب تغيير ثقافة الناس، وإقناعهم بالانتقال من نموذج فلاحي يعتمد على استعمال المواد الكيماوية إلى نموذج « بيو »، ولكنَّ التجربة نجحت، وأصبحت جميعُ مُنتجاتنا طبيعية مائة في المائة ».
ويُضيف المتحدث أنّ مشروع السياحة الإيكولوجية بمنطقة البراشوة انعكس إيجابا على الفئات الأكثر هشاشة، وهي النساء والشباب والكبار الذين اندمجوا بدورهم في المشروع، مضيفا أنّ السياحة تخلق فرص شغل متنوعةً لسكان المنطقة. ويبْقى الأهمّ، يُردف المتحدث، هو أنّ هذا المشروع، الذي يطمح القائمون عليه أن تُنشأ نماذجُ منه في مناطق أخرى، هو أنّه أقيم بـ »زيرو درهم، وبفضل الرغبة في النجاح والتحدّي التي تحلّى بها الجميع ».